كلمة القاضي ليو داقون في حفل طرح كتاب "مراقبة الجودة في تقصي الحقائق" في لاهاي بتاريخ 25 نوفمبر 2013
يسعدني أن أشارك في هذه الفعالية، طرح كتاب"مراقبة الجودة في تقصي الحقائق". إن هذا الكتاب نتيجة ملموسة للحلقة الدراسيةالتي نظمها كل من منتدى القانون الجنائي والإنساني الدولي ومعهد الجامعة الأوروبية ومعهد القانون الدولي بجامعة بكين التي عقدت في 20 مايو 2013. ويناقش الكتاب كيفية الارتقاء بآليات تقصي حقائق إزاء ادعاءات ارتكاب انتهاكات للقانون الجنائي الدولي والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. وقد تولي تسع عشرة مؤلفا مرموقا مناقشة تلك الآليات وتقييمها.
لقد شهد العقدان الماضيان نموا كبيرا في عدد ونوع الهيئات العاملة في مجال العدالة الجنائية. وإضافة إلى إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة وغيرها من المحاكم الدولية الخاصة، بدأ العديد من لجان الحقيقة وغيرها من أجهزة التحقيق تترسّخ باعتبارها وسيلة للتحقيق في المشكلات الاجتماعية، حيث تحقق في ملابسات انتهاكات حقوق الإنسان وتتصدى للجرائم الدولية وتحقق عدالة مرحلة ما بعد النزاعات وتقدم التوصيات اللازمة لاستعادة السلام والعدالة.
وعلى الرغم من أن المحاكمات الجنائية الدولية مازالت بلا شك هي القاعدة متى بدا أحد أطراف الصراع هو المنتصر، فقد بات البحث عن الحقيقة هدفا مهما من أهداف مرحلة ما بعد النزاع في حد ذاته. وقد ثبتت جدوى هذه التجربة ومن ثم بدأ الأكاديميون في تحديد أفضل أساليب العمل وتحليلها. وقد تحولت هذه الدراسات بدورها إلى مرحلة التطبيق العملي. إن جودة ولاية لجنة تقصي الحقائق الدولية وإجراءات عملها وكتابة تقريرها تحدد في نهاية الأمر جدواها وكفاءتها وشرعيتها. ومن ثم تؤدي التوعية وفهم مراقبة الجودة إلى تعزيز قيمة تقصي الحقائق الدولي لدى أصحاب المصلحة ولدى المجني عليهم في نهاية المطاف ولدى دافعي الضرائب بصورة غير مباشرة أيضا؛ حيث إنهم هم من يمكّن الحكومات من دعم مثل هذه اللجان.
وهذا الكتاب يوجز تجارب لجان الحقيقة بما في ذلك العوائق والمشكلات التي تعترض عملها ويحاول الإجابة عن العديد من الأسئلة بالغة الأهمية إزاء هذه الأنواع من الآليات. حيث يركز على مراقبة الجودة في خمسة سياقات أساسية وهي (1) إعداد الولايات (التكليفات) ذات الصلة بتقصي الحقائق دوليًا؛ (2) إجراءات العمل في تقصي الحقائق وما يتصل بها من تحليلات؛ (3) تشكيل اللجان واختيار العاملين فيها ومواردها وتحديد هيكلها التنظيمي؛ (4) كتابة التقارير الخاصة بتقصي الحقائق والاستنتاجات التي تخلص إليها اللجان؛ (5) الاتصالات العامة فيما يتعلق بتقديم التقرير النهائي.
ويلقي الكتاب نظرة ثاقبة على بعثات تقصي الحقائق ويتناول السؤال المهم المتعلق بكيفية الارتقاء بمراقبة الجودة في تلك البعثات. ويحوي مناقشة مقبولة جدا وشاملة وغنية بالأمثلة والحالات التي جاء بها من مناطق جغرافية مختلفة. فعلى سبيل المثال، ناقش القاضي ديفيد ري لجنة الخبراء ليوغوسلافيا السابقة التي شكلت وفقا لقرار مجلس الأمن الصادر في عام 1992 وكيف استعانت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلاقيا السابقة بالنتائج التي جاءت في تقارير اللجنة. ومن الملاحظ أن تلك اللجنة كانت ولا تزال نموذجا في هذا المضمار. وقد حلل القاضي ريتشارد دجيه غولدستون في فصله من الكتاب الخبرات والدروس المستفادة من تحقيق كلايتون ستهول ولجنة تحقيق غولدستون في جنوب أفريقيا وتحقيق النفط مقابل الغذاء في العراق وبعثة التحقيق في غزة.
وقد شدد الكثير من المؤلفين في هذا المُصنّف على أن الغرض من أجهزة التحقيق في المجال الجنائي الدولي هو التحقيق في الجرائم السابقة وتناولها بالبحث بغية تعزيز المصالحة الوطنية.
وخلال مؤتمر فلورنسا الذي عقد في 20 مايو 2013، سعدتُ بالتواجد الصيني القوي. وقد ناقش الأستاذ مساعد الدكتور وي زياودانغ، وهو متخصص صغير من الصين، وضع آليات تقصي الحقائق؛ إذ عادة ما تكون معتمدة من الحكومات الراعية أو السلطات الدولية كالأمم المتحدة أو تحظى بالدعم منها. وقد ينشأ الجهاز والحال كذلك، كجزء من اتفاق سلام أو مصالحة أوسع نطاقا بين جميع الأطراف المنخرطة في النزاع أو قد يكون نتاجا لعمل أحادي من جانب السلطة التنفيذية في الدولة التي غالبا ما تمتلك الأدوات القانونية والسياسية التي تؤهلها لاتخاذ إجراءات عاجلة لمجابهة انتهاكات حقوق الإنسان. وحدثنا ولفغانغ كاليك وكارولين تروندت عن الدور الذي يمكن أن تؤديه المنظمات غير الحكومية في تقصي الحقائق والمشكلات والعوائق التي تواجهها.
وفي الفصل الذي ألفته السيدة فان يوين (طالبة الدكتوراة في جامعة بكين)، أشارت، على وجه الخصوص، إلى أنه ينبغي أن يكون لجهاز التحقيق ولاية واضحة لتوفير إطار نموذج واضح للتحقيق. وأوضحت كذلك أن لجان الحقيقة يجب أن تضع قواعد واضحة تجمع الأدلة استنادا إليها، حتى لو كانت صرامة تلك القواعد ليست في درجة صرامة قواعد المحكمة. وبغض النظر عن وضع تلك الأدوات، يجب أن توضّح تلك القواعد في الوثيقة المنشئة للجهاز. فعلى الرغم من أن لجان التحقيق يكون لديها بالضرورة قواعد تخالف قواعد المحاكم الجنائية، فينبغي أن تسترشد بمبادئ النزاهة وصحة الإجراءات. فتطبيق قواعد واضحة بإنصاف هو الضمانة الوحيدة لسيادة تلك الإخلاقيات.
وكتب سايمون سميث عن معيار قبول الأدلة. ولتحري الدقة، معيار قبول الأدلة خارج إطار منظومة العدالة الجنائية ربما لا يكون العبء الرئيسي الذي يثقل كاهل المحاكم الجنائية الدولية. ورغم ذلك، يجب أن يتوفر شيء من مراقبة الجودة على قبول الأدلة وعلى الأمر برمته بدءا من صياغة الولاية إلى تشكيل اللجنة ووضع قواعد التحقيق وانتهاء بجودة أي تقرير نهائي.
وضرب تشرس ماهوني بلجنة التحقيق في اختفاء أشخاص في نيبال المثل واستعرض مسألة مراقبة الجودة في الأعمال المتعلقة بالشهود. إن الاستماع لأقوال الشهود والمجني عليهم هو أهم أعمال اللجنة؛ إذ ينبغي أن تتبع تلك المقابلات معايير محددة كما هو الحال في حالة المحكمة تقريبا. ففي جميع الأحوال تكون اللجان هي من يحدد المعايير التي تحكم الاستماع إلى شهادة الشهود في المحاكم أيضا.
وبعيدا عن المخاوف القانونية الإجرائية، يجب أن ينظر القائمون على اللجان في الطبيعة الحساسة لعملها. فليس من الغريب أن يظل الشهود على الجرائم المروعة التي تتناولها لجان الحقيقة في حالة من الصدمة جراء ما كابدوه من تجارب. ولهذا السبب، ينبغي أن يُسمح للمجني عليهم بالإدلاء بشهاداتهم قبل المقابلة وخلالها وبعدها في حالة عدم قدرتهم على مواصلة الإدلاء بها شفويا. وبصفة عامة يجب أن تُعقد المقابلات على إنفراد وينبغي، إن لزم الأمر، أن تستخدم فيها أسماء مستعارة أو غيرها من تدابير الحماية، وهذه بالطبع أمور بديهية. وعلاوة على ذلك، وبغية تسهيل عمل اللجنة، ينبغي أن تتاح للشهود خدمات المشورة الطبية والنفسية قبل المقابلة وبعدها عادة.
إن من صالح مهمة لجان الحقيقة أن تشرك فيها أفرادا وجمهورا في عملية البحث عن الحقيقة. ويمكن أن ينفذ ذلك بعدة طرق؛ فمن خلال الإذاعة على التلفزيون أو الراديو، يمكن للجان أن تشرك البلد كله في بحثها عن الحقيقة. ويمكن كذلك أن تعقد اللجنة جلسات عامة. إن توفير قدر أكبر من الشفافية عن طريق عقد جلسات عامة يسمح للمجتمع برمته بالمشاركة في العمل. فالمعلومات التي تجدها اللجنة تصبح حينئذ معلومات متاحة للجميع ومن من ثم يُرجى أن تزيد الوعي العام.
أما إيزابل لاسي فقد ركزت على أهمية التوصيات المدعمة جيدا ووثيقة الصلة بالموضوع. أن التقرير النهائي للجنة هو ما يبقى من عملها ومن ثم فهو أهم ركن من أركان التحقيق. وعادة ما يتضمن التقرير النهائي الغرض من إنشاء اللجنة وولايتها وتشكيلها وعملها وإنتاجها المنتظر والنتائج التي توصلت إليها على سبيل المثال لا الحصر. كما قد يتضمن توصيات اللجنة بشأن كيفية المضي قدما في عالجة آثار تلك الجرائم ومنع وقوعها في المستقبل. إنني أعتقد أن التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان السابقة أمر له أهمية بالغة في منع وقوعها في المستقبل، بيد أن التحقيق هو مجرد الخطوة الأولى؛ إذ يجب أن يعقبه الإصلاح. لذا يجب أن تركز توصيات اللجنة على ترسيخ مبدأ سيادة القانون و قد تتضمن توصيات بالمقاضاة أو الإصلاح المؤسسي أو التعويض أو حتى اقتراحات بالانضمام إلى اتفاقية معينة من اتفاقيات حقوق الإنسان.
والخلاصة أن مؤلفي هذا المُصنّف قد بذلوا جهدا جبارا في استكشاف جميع أوجه تقصي الحقائق ووضعوا بين دفتيه أساليب العمل وفنياته وأطره النظرية كي يكون الكتاب شاملا ويكون بمثابة تذكرة للقارئ كذلك.
وفي الختام، أود أن أستغل هذه الفرصة لأعرب عن خالص امتناني للبروفيسور مورتن بيرغسمو، الذي كَرّس قدرا عظيما من وقته وجهده لنشر القانون الدولي الإنساني. فتحت إشرافه، يسعى مركز بحوث وسياسات القانون الدولي إلى المساهمة في الأنشطة الأكاديمية وإشراك ممارسي تلك المهنة وواضعي السياسات في القانون الدولي عن طريق توفير المنح الدراسية والمنشورات وإجراء الحوارات الرامية إلى تنمية القدرات وغيرها من أنشطة نقل المعرفة فضلا على تطوير أدوات المعرفة. ويعقد منتدى القانون الجنائي والإنساني الدولي حلقات عمل واجتماعات يحضرها خبراء لتناول موضوعات مختارة بعناية تغطي أنحاء العالم، وقد نشرت دار توركل أوبسال الأكاديمية للنشرالإلكتروني حتى الآن تسعة عشر كتابا ضمن سلسة منشوراتها، بما في ذلك هذا الكتاب، فضلا عن كثير من موجزات السياسة والموضوعات التي نُشرت ضمن سلسلة البحوث العارضة وسلسلة قانون المستقبل. ولا تقتصر مساهمة البروفيسور بيرغسمو باعتباره استاذا زائرا في أعرق الجامعات الصينية على نشرالقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الجنائي الدولي، بل تتخطى ذلك إلى النهوض بعمليات التبادل بين الأكاديميين والباحثين والطلاب في الشرق والغرب. ولذا فهو يستحق الثناء. شكرا لك يا بروفيسور مورتن بيرغسمو.