كلمة القاضي ديفيد رِيّ
لا بد لي بدايةً أن أعترف بمساهمة مركز بحوث ودراسات القانون الدولي الملحوظة في الدراسات العلمية في مجال القانون الدولي، ومرة أخرى أهنئ البروفيسور مورتن بيرغسمو على مهاراته التنظيمية المبهرة التي أثمرت إنجاز هذا المشروع المتميز. إنني أشعر بالفخر والاعتزاز لدعوتي للمشاركة في هذا الحدث الفريد والتاريخي. فمستوى الدراسات العلمية ومداها متميز للغاية. إن جمع علماء من جميع أنحاء العالم -ومن آسيا على وجه الخصوص- على هذا النحو الذي نراه إنجاز بالغ الأهمية. تهانينا لجميع المشاركين في هذا العمل وشكرا للمشاركين في رعاية هذا الحدث الكبير اليوم.
علينا أن ندرك -كما علمنا المؤلفون في هذين المنشورين- أن كل شيء في القانون الجنائي الدولي له أساسه التاريخي. بالعودة إلى عام 1945، يمكننا القول إن «البداية كانت في نورمبرغ». فالحاجة، في ظل غياب أي سابقة، كانت أم الاختراع.
أما الآن وبعد أن جذبكم عنوان الفصل الذي كتبته ويحمل عنوان «تطوري أم ثوري أم شيء أشرّ؟» في المجلد 4، فسأشرح الموضوعات الثلاثة في سياقها التاريخي والسبب في أن تشكيل هيئة محكمتي نورمبرغ وطوكيو وقواعدهما الإجرائية وممارساتهما ما فتئت تؤثر تأثيرا كبيرا على القانون الجنائي الدولي حتى اليوم. أما جواب السؤال «تطوري أم ثوري أم شيء أشر؟» فهو، على ما يبدو، خليط من الثلاثة.
وغالبا ما يُقال -حتى على لسان شُرّاح بارزين- إنه لم تكن هناك قواعد في نورمبرغ. بل إن القضاة، على ما يُقال، كانوا يبتكرون كل شيء طوال الوقت. وكانت جميعها وثائق على أية حال. (ودعونا لا ننسى أن نورمبرغ شهدت استدعاء عدد لا يتجاوز 33 شاهدا إلى قاعة المحكمة.) حسنا، ماذا كان خطؤهم؟ لقد كان ميثاق لندن في الواقع يضم 11 قاعدة موضوعية إضافة إلى 35 قسما فرعيا. أما قواعده التي وضعها القضاة، فكانت 9 قواعد مقسمة إلى 20 قسما فرعيا.
ومن اللافت للنظر استمرار جوهر الأسس والإجراءات التي اتُبِعت في محكمتي نورمبرغ وطوكيو والجرائم التي نظرتها بصورة معدلة في المحاكم الدولية الحديثة. فقد ألهمت بعض الأسس والقواعد والممارسات المهمة التي وُضعت في محكمتي نورمبرغ وطوكيو القواعد الإجرائية القانونية الجنائية الدولية الرئيسية. لكن، ماذا استمر تحديدا؟
- الجوانب الأساسية جدا في المحاكمة التي تعقد بين خصمين يستعرض كل منهما جوانب قضيته؛
- هيئات مختلطة تضم قضاة دوليين؛
- مدع عام ومحقق مستقل يكون جزءا من تشكيل هيئة المحكمة؛
- جواز قبول أدلة مجموعة بطرق غير قانونية دون تطبيق مبدأ استبعاد ذلك النوع من الأدلة.
وهناك أيضا ممارسات ومبادئ أخرى أقل أهمية لا تزال قائمة، هي:
- الاعتماد الكبير على الوثائق (في بعض القضايا) بما في ذلك نوع شهادة الشهود المقدمة في شكل شهادات خطية؛
- قرارات الاتهام التي لا تحتوي على أدلة؛
- الإقرار بارتكاب الجرائم؛
- الإعلان القضائي بصدور الأحكام -وهو شكل أوسع من حجية الأمر المقضي به يمتد إلى قضايا أخرى؛
- الطلبات التي تُقدّم قَبل المحاكمة؛
- ترتيب النظر في الأدلة في الدعوى؛
- الكشف الكامل قَبل المحاكمة عن أدلة الادعاء؛
- السماح للمتهمين بالشهادة في دعواهم والإدلاء بالشهادة غير المشفوعة باليمين.
أما الممارسات الأخرى، مثل الطعن بعدم الاختصاص، فقد ظهر في أربعينيات القرن العشرين لا من القواعد. وهناك فئة أخرى من الممارسات اعتمدتها بعض المحاكم الدولية الحديثة، دون غيرها، هي، على سبيل المثال، وضع القواعد القضائية عن طريق المحاكم نفسها (عن باستثناء المحكمة الجنائية الدولية حيث توجد في شكل معدل في النظام الأساسي للمحكمة). وحتى مع تدخل القانون الدولي لحقوق الإنسان، لا تزال هناك أنظمة إجرائية مماثلة في المحاكمات الجنائية الدولية الحديثة.
في عام 1945، كان الحلفاء متحدين -من الناحية الإجرائية- في رغبتهم في إجراء محاكمة سريعة مفضلين نهج جواز قبول أدلة مجموعة بطرق غير قانونية. فقد كانوا يرغبون في الحصول على وثائق، لا استدعاء شهود، كي يخلصوا إلى نتائج. ومن ثم، اعتمدوا نهجا مختلطا يجمع بين خصائص من كلٍ مِن نظام القانون العام ونظم القانون المدني. وقد استُمدت القواعد أساسا من عمل اللجان العسكرية الأمريكية التي ابتُكرت لمحاكمة المخربين النازية المقاتلين غير الأعداء الذين هبطوا في الولايات المتحدة -لضمان عدم تطبيق قواعد الإثبات في القانون العام المعمول بها في المحاكمات المدنية والمحاكمات العسكرية التي تستبعد الأدلة المجموعة بطرق غير قانونية. حيث جاء النص عليها في أمر أمر تنفيذي صادر عن الرئيس (وقد أيدته المحكمة العليا في الولايات المتحدة في قضية كوريرن الصادر الحكم فيها من طرف واحد في عام 1942).
واقترح الأميركيون على حلفائهم في فترة ما بعد الحرب (الاتحاد السوفيتي وفرنسا والمملكة المتحدة) استخدام هذه القواعد نفسها، فقلبوها. واعتمدت المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى في طوكيو نفس المسار الإجرائي والهيكلي تقريبا. وتحقيقا للشفافية، كان من الواجب أن يكون القضاة والمدعون من كل حليف من الحلفاء جزءا من تشكيل هيئة المحكمة. وكان عليهم العمل معا في بيئة دولية.
وبعد مُضيّ نحو خمسين عاما، اعتمدت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلاقيا السابقة في عاميّ 1993 و1994 (وبعد ذلك المحكمة الجنائية الدولية لرواندا) قواعد وتشكيلات مماثلة للغاية.
لكن لماذا؟ أفضل تفسير في حالة المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلاقيا السابقة ثم المحكمة الجنائية الدولية لرواندا والمحكمة الخاصة لسيراليون والمحكمة الخاصة للبنان، وكذلك المحكمة الجنائية الدولية، إلى حد كبير، مع الحفاظ على إجراءات إثبات نورمبرغ –أي قواعد جواز قبول أدلة مجموعة بطرق غير قانونية، دون التقيد بالقواعد التقنية، مع وجوب أن تكون الأدلة ذات أهمية ومفيدة في الإثبات، مع جواز قبول الأقاويل المرسلة وما إلى ذلك- هو التكلفة والنزعة العملية والسوابق.
وهناك ميل طبيعي لدى المحامين (والدبلوماسيين) إلى اتباع المعروف وترك غير مألوف. وتتطلب الإجراءات الجنائية الدولية -التي تشمل جهات دولية فاعلة متعددة- تشكيلات وإجراءات مختلطة. وكانت نورمبرغ سابقة معروفة.
وكانت الإجراءات تتضمن أيضا شفافية مُضمرة في صلبها ناتجة عن حاجة كل حليف من حلفاء نورمبرغ إلى استعراض كل من الأدلة وإجراء علنا.
وكانت الشفافية هي الأساس الوطيد للمحاكمات الدولية. وقد تنطوي المحاكمات الدولية على عملية نقل لسيادة الدول، ولهذا فثمة هناك حاجة إلى توافر الثقة في عملية النقل. ويمكن للشفافية الإجرائية أن تسهم في مد جسور هذه الثقة. وهذا الأمر يُساعد على التغلب على انعدام الثقة والشك المتبادلين -وهي وسيلة أقل تهذبا للإشارة إلى الشفافية المؤكدة بين الأطراف -القائمة بين الاتحاد السوفياتي والحلفاء الثلاثة الآخرين- ولا تزال موجودة.
إذا، هل هو تطوري أم ثوري أم أشرّ؟ الجواب يجمع بين الثلاثة. لقد كانت المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ، بوصفها كأول محاكمة جنائية دولية، محكمة ثورية.
هل هو تطوري؟ تحولت التشكيلات والإجراءات إلى تلك المستخدمة في المحاكم الجنائية الدولية الحديثة. وظهرت شبكة من المؤسسات وتوسعت وتطورت لتشمل ضمانات القانون الدولي لحقوق الإنسان. ومن السمات الأخرى دور المجني عليهم والشهود ونظم التعاون المعقد بين الدول ونظم إصدار الأحكام.
هل هو أشر؟ حسنا، نظرا إلى دوافع وضع أسس إجراءات المحاكمة الأصلية -أي إجراء محاكمة سريعة وموثقة للعدو المهزوم، ولكن مع إظهار الإنصاف- كان من الطبيعي أن تنطوي على الشر إلى حد ما. فمفاوضات نورمبرغ تكشف عن وجود رغبة قوية لدعم الادعاء والانتقاص من حقوق الدفاع. وبسبب الرغبة في تقييد قدرة الدفاع على الطعن في قضية الادعاء، كان عليهم الاستغناء عن أي قواعد إثبات «تقنية». فقد كانوا يريدون استخدام الوثائق النازية ضد المتهمين ولكن دون وجود أدلة شفوية. وبناء على ذلك وُضِعت الإجراءات. لكن، في الوقت نفسه، كان لابد أن تبدو المحاكمة نزيهة.
ولكن هذا التقارب بين انعدام الثقة والمصلحة المشتركة تطلب شفافية علنية في إجراءات أي محكمة جنائية دولية ناتجة عن ذلك.
غير أن الصراع لم يكن في معظمه يدور حول الثقافات القانونية -أي بين تقاليد القانون المدني وتقاليد القانون العام، أو حتى بين الأنظمة الاستبدادية والأخرى الأكثر ديمقراطية- بل حول إظهار العدالة. وقد أفضت المقترحات التفاوضية الأمريكية لشهر أبريل 1945 المتعلقة بمشروعات لندن التفاوضية إلى التوصل إلى الإجراءات والقواعد الخاصة بالمحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ. وبعد ذلك -أي قبل وقوع الحادث التاريخي لعام 1993 المتمثل في إنشاء محكمة تبحث عن تشكيل هيئتها ووضع إجراءاتها- تحولت إلى مزيج قانوني مختلط ظل بشكل أو بآخر على قيّد الحياة اليوم في المحاكم الجنائية الدولية الحديثة.
والأمر نفسه يمكن أن ينسحب على مشروع مركز بحوث وسياسات القانون الدولي. فالمشروع، مثله مثل نورمبرغ، هو الأول من نوعه ولهذا يكفيه فخرا أن يكون مشروعا ثوريا. هل هو تطوري؟ في الواقع - خرجت للنور أربعة مجلدات، ومما لا شك فيه أن هناك مؤسسات أخرى سحذو حذو المركز- وآمل، أن يكون ذلك في آسيا على وجه الخصوص.
لكن هل هو أشر؟ حسنا، لو عارضتم إلقاء الضوء على الماضي، الذي يمكن أن نتعلم منه الكثير، لنتبيّن ما نحن فيه اليوم. لكني أعرف أن حضراتكم جميعا لن تفعلوا ذلك.