كانت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أول من أجرى تحقيقات حول الجرائم الجنسية الدولية وأول من حاكم عليها بطريقة منهجية من خلال ما يعرف باسم "قضايا فوكا" (إشارة إلى بلدة فوكا في البوسنة والهرسك). وتمثل تلك المحاكمة إنجازا بالغ الأهمية للعدالة الجنائية الدولية ككل. ويمكن وصف أسلوب المحكمة بأنه الأسلوب الافتراضي أي بديل مخفف من "المحاكمة النوعية"، التي يفهم منها -في الحلقة الدراسية الحالية- أنها إعطاء الأولوية، على الأقل مبدئيا، إلى الجرائم الجنسية الدولية على غيرها من الجرائم، ومنها الجرائم التي تعتبر أكثر خطورة بشكل عام كجرائم القتل. ويرى البعض هذا الأسلوب ضروريا لتركيز ما يكفي من موارد على بناء قضايا معقدة تستهلك الكثير من الوقت عند تراكم عدد كبير من القضايا.
وتختلف "المحاكمات النوعية" الخالصة عن الأساليب الموحدة في أن هذه الجرائم التي تعتبر عادة شديدة الخطورة لا تحظى بالأولوية ذاتها، على الأقل من الناحية المبدئية. حيث تستلزم تلك "المحاكمات النوعية" الخالصة أن يفصل هذا النوع من الجرائم ويُعطى الأولوية في التحقيق والمحاكمة، حتى وإن كان ذلك يعني ألا تكفي الموارد للتحقيق في قضايا القتل وغيرها من الجرائم الخطيرة التي لا تنطوي على هذا النوع.
ويمكن الدفع بأن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة قد سعت من أجل إجراء محاكمة نوعية على مذبحة سربرنيتسا، ولكن ليس على أنواع الجرائم المتعلقة بتدمير مبان ومعالم دينية أو التحريض من خلال وسائل الإعلام. وقد اقترح على المحكمة الجنائية الدولية استخدام المحاكمات النوعية في جرائم تجنيد الأطفال واستغلالهم. لكن هذه الحلقة الدراسية لم تهتم بالممارسات المؤسسية السابقة قدر اهتمامها بالممارسات المستقبلية.
ويواجه العديد من أنظمة العدالة الجنائية الدولية الكثير من القضايا المتعلقة بالجرائم الدولية الأساسية بمعدلات تفوق ما تمتلكه من موارد لإجراء التحقيقات والمحاكمة. حيث إنها في حاجة إلى ترتيب القضايا بحسب أولويتها. فهل تستخدم متغير واحدا أو أكثر من متغيرات "المحاكمات النوعية" لإلقاء الضوء على أنواع معينة من الجرائم بحسب ظروف كل جريمة؟
ومن الجدير بالذكر أنه إلى الآن لا يوجد تبرير لإجراء محكمات نوعية على الجرائم الدولية الأساسية -ومنها الجرائم الجنسية. وهذا في حد ذاته ثغرة حيث إن ممارسة "المحاكمات النوعية" الخالصة يحتمل أن يكون أمرا مثيرا للجدل. حيث تشدد معظم المعايير التي تستخدم لترتيب القضايا حسب الأولوية على خطورة الجرائم. وتتسم معظم النزاعات المسلحة المعاصرة للأسف بالعديد من جرائم القتل بشكل يفوق بكثير ما يمكن أن تتصدى له نظم العدالة الجنائية الوطنية. إذ يعتبر الكثيرون أن القتل أكثر خطورة من الجرائم الجنسية والتعذيب. وبالتالي يسهل على مسؤولي العدالة الجنائية الإصرار على إعطاء الأولوية للجرائم الدولية الأساسية الأكثر خطورة في التحقيق والمحاكمة، سواء في الهيئات القضائية الدولية أو الوطنية.
وتتناول الحلقة الدراسية التبرير الذي يفسر إعطاء مسؤولي العدالة الجنائية الأولوية في التحقيق والمحاكمة في الأنواع الرئيسية من الجرائم الدولية الأساسية، ولا سيما الجرائم الجنسية الدولية. وكذلك تناولت الحلقة المسائل المتعلقة بما إذا كان ينبغي أن يوجد اختصاص قضائي نوعي على الجرائم الجنسية الدولية (محاكم أو دوائر خاصة)، وما إذا كان ينبغي توفير قدرات مؤسسية خاصة للتحقيق في هذه الجرائم وإعداد قضاياها، أو غيرها من أشكال التدابير الخاصة لتسهيل هذه التحقيقات والمحاكمات. وعلاوة على ذلك، نوقش في الحلقة دور المنظمات غير الحكومية الناشطة في عمليات صنع القرار التي تؤدي إلى التحقيقات النوعية.
وقد عقدت هذه الحلقة برعاية وزارة الشؤون الخارجية الملكية النرويجية.